الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
توفـي شيخنـا الإمـام العـارف كعبة كل ناسك عمدة الواصلين وقدوة السالكين صاحب الكرامات الظاهرة والإشارات الباهرة شخينا وأستاذنا الشيخ محمود الكردي الخلوتي حضر إلى مصر متجردًا مجاهدًا مجتهدًا في الوصول إلى مولاه زاهدًا كل ما سوأه فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني وقطع الأسماء وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار وأفيـض علـى نفسه القدسية أنواع العلوم المدنية. وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنـه رأى الشيـخ محـي الديـن العربـي رضـي اللـه عنـه فـي المنـام أعطاه مفتاحًا وقال له: افتح الخزانة. فاستيقـظ وهـي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها. قال: فكنت كلما صرفت الوارد عنـي عـاد إلـي فعلمـت أنـه أمـر إلهي فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف كأنما هي تملي على لسانـي مـن قلبـي وقـد شرحهـا خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحًا لطيفًا جامعًا مانعًا استخرج به من كنوز معانيها ما أخفاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وشرحها أيضًا أحد خلفائه الأستاذ العلامة السيد عبد القـادر بـن عبـد اللطيف الرافعي البياري العمري الحنفي الطرابلسي شكر الله صنيعهما ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كـوران ونشـأ فـي المجاهـدة وهـو ابـن خمـس عشـرة سنـة صائـم الدهـر محيـي الليـل كلـه فـي مسجـد ببلدتـه معـروف حتى اشتهـر أمره وقصده الناس بالزيارة فهجر ذلك المكان وصار يأوى الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعـر بـه أحـد. وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لإنذارها بطلوع النهـار لمـا يجده في ليله من المواهب والأسرار. وكان جل نومه في النهار وكثيرًا ما كان يجتمع بالخضـر عليـه السلـام فيـراه بمجـرد مـا ينـام فيذكـر اللـه معـه حتـى يستيقـظ. وكـان لا يفتر عن ذكر الله لا نومـًا ولا يقظـة. وقـال مـرة: جميـع مـا فـي كتـب إحيـاء العلـوم للغزالـي عملـت به قبل أن أطالعه فلما طالعتـه حمـدت اللـه تعالـى علـى توقيفـه إيـاي وتوليتـه تعليمـي مـن غيـر معلـم. وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير وفي بيته يصنع خاص دقيق البر وكثيرًا ما كان يلومه أخوه على ذلك وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته. ولما مات والده ترك ما يخصـه مـن إرثـه لهـم وكـان والـده كثيـر المـال والخير وعليق دوابه في كل ليلة أكثر من نصف غرارة من الشعير. ولما صار عمره ثمان عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوي فقيل له: هذا شيخك فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتيـة وسلـك علـى يديـه بعـد أن كـان على طريقة القصيري رضي الله عنه. وقال له في مبدأ أمـره: يـا سيـدي إنـي أسلـك علـى يديـك ولكـن لا أقـدر على ترك أوراد الشيخ علي القصيري فأقرأ أوراده وأسلـك طريقتـك. فأجابـه الشيـخ إلـى ذلـك ولـم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيري لما عرفه من صدقه مع المذكور فلازمه مدة طويلـة ولقنـه أسمـاء الطريقـة السبعـة فـي قطـع مقاماتها وكتب له إجازة عظيمة شهد له فيها بالكمال والترقي في مقامات الرجال وأذن لـه بالإرشـاد وتربية المريدين. فكان الشيخ في آخر أمره إذا أراد أحد أن يأخذ عنه الطريق يرسله إلى الشيخ محمود ويقول لغالب جماعته: عليكم بالشيخ محمود فإني لولا أعلم من نفوسكم ما أعلم لأمرتكم كلكم بالأخذ عنه والانقياد له. ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكري لازمه وأخذ عنه كثيرًا من علم الحقائق وكان كثير الحب فيه فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقـة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيري عاتبه في ذلك وقال له: أيليق بك أن تسلك على أيدينا وتقرأ أوراد غيرنا إما أن تقرأ أورادنا أو أن تتركنا. فقال: يا سيدي أنتم جعلكـم اللـه رحمـة للعالمين وأنا أخاف من الشيخ القصيري إن تركت أوراده وشيء لازمته في صغري لا أحب أن أتركـه فـي كبـري. فقال له السيد البكري: استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك. قال: فاستخرت الله العظيم ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم والقصيري عن يمينه والسيد البكري عن يساره وأنا تجاههم فقال القصيري للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك أليست أورادي مقتبسة من أنوارك فلم يأمر السيد البكري هذا بترك أورادي فاقل السيد البكري يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا فقال الرسول عليه السلام لهما اعملا فيه القرعة واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكري فقال له السيد معنى القرعة انشراح صدرك انظـره واعمل به قال الشيخ رضي الله عنه: ثم بعد ليلة وأكثر رأيت سيدي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في المنام وهو يقول لي يا محمود خليك مع ولدي السيد مصطفى ورأى ورد سحر الذي ألفه المذكور مكتوبًا بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكري وأخذ من أوراد القصيري ما استطاع. وأخبـر رضـي اللـه عنـه أنـه رأى حضـرة الرسـول صلـى اللـه عليه وسلم في بعض المرائي وكان جمع الفقـراء فـي ليلـة مباركـة وذكـر اللـه تعالـى بهـم إلـى الفجـر وكـان معـه شـيء قليـل مـن الدنيا فورده على قلبـه وارد زهـد ففـرق مـا كـان معـه علـى المذكورين وفي أثناء ذلك صرخ من بيان الجاعة صارخ يقول الله بحال قوي فلما فرغوا قال للشيخ يا سيدي سمعت هاتفًا يقول يا شيخ محمود ليلتك قبلـت عند الله تعالى قال ثم إني بعدما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلـم قـال لـي يـا شيـخ محمـود ليلتـك قبلـت عنـد اللـه تعالـى وهات يدك حتى أجازيم فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد الشيخ والسيد البكري حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما وقال أريد أن أخاوي بينك وبين السيد البكري وأتخاوى معكما الناجي منا يأخذ بيد أخيـه فاستيقـظ فرحـًا بذلـك فلـم يلبـث إلا يسيـرًا ورسـول السيد البكري يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة فلما رآه قال له ما أبطـاك اليـوم عن زيارتنا فقال له يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت وتأخرت عنكم فقال له السيد هل من بشارة أو إشارة فقلت يا سيدي البشارة عندكم فقال قل ما رأيت قال فتعجبت من ذلك وقلت يا سيدي رأيت كذا وكذا فقال يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشـرة لنـا ولـك فإنـه صلـى اللـه عليـه وسلـم ناج قطعًا ونحن ببركته ناجون ومناقبه رضي الله عنه كثيـرة لا تحصـر. وكـان كثيـر المـرأى لرسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم قـل مـا تمـر بـه ليلـة إلا ويراه فيها وكثيـرًا مـا يـرى رب العـزة في المنام ورآه مرة يقول له يا محمود إني أحبك وأحب من يحبك فكان رضـي اللـه عنـه يقـول مـن أحبنـي دخـل الجنة. وقد أذن لي أن أتكلم بذلك وأما مجاهداته فالديمة المـدرار كمـا قالـت عائشـة رضـي اللـه عنهـا فـي جنابـه صلـى اللـه عليـه وسلـم كان عمله ديمة وأيكم يستطيـع عمـل رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم. وبلـغ مـن مجاهداتـه رضـي اللـه عنـه أنه لما ضعف عـن القيـام فـي الصلـاة لعـدم تماسكـه بنفسـه صنـع لـه خشبـة قائمة يستند عليها ولم يدع صلاة النقل قائمًا فضلًا عن الفرض ولم يدع صلاة الليل والوظائف التي عليه مرتبة في حال من الأحوال وكـان لا ينـام مـن الليـل إلا قليلًا وكان ربما بمضي عليه الليل وهو يبكي وربما تمر عليه الليلة كلها وهـو يـرد آيـة مـن كتـاب اللـه تعالـى. وكثيـرًا مـا كـان يقتصـر علـى الخبـز والزيـت ويؤكـل في بيته خواص الأطعمة وكان غالب أكله الرز بالزيت وتارة بالسمن البقري وقـل مـا تـراه فـي خلوتـه أو مـع أصحابه إلا وهو مشغول فـي وظائـف أوراد. وقـال لـي مـرة ربمـا أكـون مـع أولـادي ألاعبهـم وأضاحكهـم وقلبـي فـي العالـم العلـوي فـي السمـاء الدنيـا أو الثانية أو الثالثة أو العرش وكثيرًا ما كان تفيض على قلبه معرفة الحق سبحانه وتعالى فيجعل يبكي ولا يشعر به جليسه. وقلت يومًا للعـارف باللـه تعالـى خليفتـه سيـدي محمـد يديـر القدسـي من كرامات الأستاذ أنه لا يسمع شيئًا من العلم إلا حفظه ولا يزول من ذهنه ولو بعد حين فقال لي رضي الله عنه بل الذي يعد من كرامات الشيخ أنه لا يسمع شيئًا من العلم النافع إلا ويعمل به في نفسه ويداوم عليه. فقلت صدقـت هـذا واللـه حاله وكنت مرة أسمعته رياض الرياحين لليافعي فلما أكملته قال لي بمحضر من أصحابه هل يوجد الآن مثل هؤلاء الرجال المذكورين في هذا الكتاب تكون لهم الكرامات فقـال لـه بعـض الحاضريـن الخيـر موجـود يا سيدي في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال الشيخ وقد وقع لي في الطريق أبلغ من ذلـك وأحكـي لكـم عمـا وقـع لـي فـي ليلتـي هـذه: كنـت قاعـدًا أقـرأ فـي أورادي فعطشت وكان الزمن مصيفًا والوقت حارًا وأم الأولاد نائمة فكرهت أن أوقظها شفقة عليهـا فمـا استتـم هـذا الخاطـر حتـى رأيـت الهـواء قـد تجسم لي ماء حتى صرت كأني في غدير مـن المـاء ومـا زال يعلـو حتـى وصـل إلـى فمـي فشربـت مـاء لـم أشـرب مثلـه ثـم أنـه هبـط حتـى لم يبق قطرة ماء ولم يبتـل منـي شـيء. وبـردت ليلـة فـي ليالـي الشتـاء بـردًا شديـدًا وأنـا قاعـد أقـرأ فـي وردي وقـد سقـط عنـي حرامـي الـذي أتغطـى به وكان إذا سقط عنه غطاؤه لا يستطيع أني رفعه بيده لضعف يده قال فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها فما تم هذا الخاطر حتى رأيـت كانونًا عظيمًا ملآنًا من الجمر وضع بين يدي وبقي عندي حتى دفئ بدني وغلب وهج النـار علـي فقلـت فـي سـري هـذه النـار حسيـة أم هـي خيـال فقربـت إصبعـي منها فلذعتني فعلمت أنهـا كرامـة من الله تعالى ثم رفعت. والحاصل أن مناقبه رضي الله عنه لا تكاد تنحصر وكان لكلامـه وقـع فـي النفـوس عظيـم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسائل دينية أو حكاية تتضمن جوابًا عن سـؤال يسألـه بعـض الحاضريـن بقلبه ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسوء وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي كثير التواضع كثير الإحسان للفقراء والمساكين لا يمسـك مـن الدنيا شيئًا جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله. ما أمسك بيده درهمًا ولا ينارًا قط آخذًا بالـورع فـي جميـع أمـوره ليـس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت كفاه الله مؤنة الدنيا عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيئًا قال السيد شارح الرسالة خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط وللأستاذ رضي الله عنه رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك وهي صورة مكتوب من إملائه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف وكان الشيخ رضي الله عنه أرسـل لـه جوابـًا عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب يكون متضمنًا بعض النصائح فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ستة كراريس وصارت كتابًا عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والداني وكتب عليه كثير من العلماء وكانت وفاة الأستاذ رضي الله عنه ثالث المحرم من هذه السنة وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل وصلي عليه بالأزهر ودفن بالصحراء بجوار السيد مصطفى البكرى رضي الله عنهما. ومات الأديب الماهر واللبيب الشاعر الشيخ علي بن عنتـر الرشيـدي كـان متضلعـًا فصيحـًا مفوهًا له موشحات ومقاطيع كثيرة ونظم البحور الستة عشر كلها بالاقتباس منها قوله فـي الطويل: أطلت الجفا فأسمح بوصلك يا رشا ولا تبدلن وعد الكئيب بضده فعولن مفاعيلن فعولـن مفاعلـن ولا تحسبـن اللـه مخلـف وعده وقال في المديد ومنه الاكتفاء: في مديـد الهجـر قـال اللواحـي دع هواه فالغرام جنون فاعلاتن فاعلن فاعلاتن واصطبر عن حبه قلـت كونـوا وقال في الرجز: كملت محاسن منيتي فهديت في روض غدا في وجنتيـه نضيـرا وقال في الرجز: ارجزفاني في هوى حلو اللما مسى الورى أضحيت صبا هائما مستفعلـن مستفعلـن مستفعلن إن قل صبري قال صبر قل وما وقال في الوافر: بوافـر لوعتـي صل يا غزالي فكل متيم فإن وبالي مفاعلتن مفاعلتن فعولن ويبقـى وجه ربك ذو الجلال وقال في البسيط: بسطت في شادن حلو اللما غزلي وقلت جدلي بوصل منك يا أملي مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن فقال لي خلق الإنسان من عجل وقال في الرمل: قد رملت الوصف فيـه قائـلًا مذبـدًا الهنـدى من أهدا به فاعلاتن فاعلاتن فاعلن قـل هـو الرحمـن آمنـا بـه وقال في الخفيف: خفـف الهجـر عـن فـؤاد كليم وامل كاس الوصال لي يا نديمي وله ديوان شعر مشهور ولم يزل حتى مات بالثغر في ربيع الأول من السنة. ومـات الشيـخ الصالـح الديـن بقيـة السلـف ونتيجة الحلف الشيخ أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن أبي السرور البكري الشافعي شيخ سجادة البكرية بمصر كان صاحب همة ومروءة وديانـة وعفـاف ومحبـة وإنصاف وتولى بعد موت أبيه فسار سيرًا وسطًا مع صفاء الباطن وكان الغالـب عليه الجذب والصلاح والسلوك على طريق أهل الفلاح مع أوراد وأذكار يشتغل بها توفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الثاني من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن عند أسلافه قرب مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه. ومات الإمام الفصيح المعتقد الشهير الذكر الشيخ إبراهيم بن محمد بـن عبـد السلـام الرئيـس الزمزمي المكي الشافعي مؤقت حرم الله الأمين ولد بمكة سنة 1110 وسمع من ابن عقيلـة وعمـر بـن أحمـد بـن عقيل والشيخ سالم البصري والشيخ عطاء الله المصري وابن الطيب وحضر على الشيخ أحمد الأشبولي الجامع الصغير وغيره وأخذ عن السيد عبد الله ميرغني ومن الورادين من أطراف البلاد كالشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ عمر الدعوجي والشيخ أحمد الجوهري وأجازه شيخنا السيد عبد الرحمن العيدروس بالذكر على طريقة السادة النقشبندية وألف باسمه رسالة سماها البيان والتعليم لمتبع ملة إبراهيم ذكر فيها سنده وأجازه السيد مصطفـى البكـري فـي الخلوتيـة وجعلـه خليفتـه فـي فتـح مجالـس الذكـر وفـي ورد سحر ولازم المرحوم الوالـد حسـن الجبرتـي سنـة مجاورتـه بمكـة وهـي سنـة خمـس وخمسين ملازمة كلية وأخذ عنه علم الفلـك والأوفـاق والاستخراجـات والرسم وغير ذلك ومهر في ذلك واقتنى كتبًا نفيسة في سائر العلوم بددها أولاده من بعده وباعوها بأبخس الأثمان. وكان عنده من جملة كتبه زيج الراصد الغيبـك السمقرنـدي نسخة شريفة بخط العجم في غاية الجودة والصحة والإتقان وعليها تقييدات وتحريرات وفوائد شريفة لا يسمح الدهر بمثل تلك النسخة وكنت كثيرًا ما أسمع من المرحوم الوالـد ذكرهـا ومدحتهـا ونسخـة الوالد مكتوب عليها بخط رستم شاه ما نصه: قد اشترينا هذا الكتـاب فـي دار سلطنـة هـراة باثنـي عشـر ألف دينار. وتحت ذلك اسمه وختمه. فلما كان في سنـة سـت وتسعيـن ورد علينـا بعـض الحجـاج الجزائرية وسألني عن كتب يشتريها من جملتها الزيج المذكـور وأرغبني في زيادة الثمن فلم تسمح نفسي بشيء من ذلك ثم سافر إلى الحج ورجع وأتاني ومع خادمه رزمة كبيرة فوضعها بين أيدينا وفتحها وأخرج منها نسخة الزيج المذكورة وفرجنـي عليهـا وقـال: أيهمـا أحسـن نسختك التي ضننت بها أو هذه. وكنت لم أرها قبل ذلك فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن بصغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها وطيارات كثيرة بداخلها في المسائل المعضلة مثل التسييرات والانتهاءات والنمودارات وغير ذلك وجميعها بحسن الخط والوضع فرأيتها المخدرة التي كشف عنها القناع وإنما هي المعشوقة بالسماع فقلت له: كيـف وصلـت إلـى هـذه اليتيمـة ومـا مقدار ما دفعته فيها من المهر والقيمة. فأخبرني أنه اشتراها مـن ابـن الشيخ بعشرين ريالًا وكتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع في غايـة الجودة وزيج ابن الشاطر وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزائن الملوك وكلها بمثل ذلك الثمن البخس. فقضيت أسفًا وأخذ الجميع مع ما أخذ وذهب إلى بلاده. وهكذا حال الدنيا ولم يزل المترجم على حالة حميدة واشتهر أمره في الآفاق وعرف بالصلاح والفضل وأتته الهدايـا والمراسلـات من جميع الأطراف والجهات حتى لحق بربه عز وجل سابع عشر ربيع الأول من السنة. ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن محمد الباقاني الشافعي النابلسي سمع الأولية من محمد بن محمد الخليلي ورافق الشيخ السفاريني في بعض شيوخه من أهل البلد وأجازه السيـد مصطفـى البكـري فـي الورد والطريقة ورد مصر أيام توليه المرحوم مصطفى باشا طوقان وكان له مذاكـرة حسنـة وورع وصلـاح وعبـادة وانتفـع بـه الطلبـة فـي بلاده ثم عاد إلى بلاده فتوفي في ثالث جمادى الثانية. ومات الأجل المفوه الشريف الفاضل السيد حسين بن شرف الدين ابن زين العابدين بن علاء الديـن بـن شـرف الديـن بـن موسـى بـن يعقـوب ابـن شـرف الديـن بـن يوسف بن شرف الدين بن عبد اللـه بـن أحمـد أبـي ثـور ابـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن عبـد الجبـار الثـوري المقدسـي الحنفـي جـده الأعلـى أحمـد بـن عبـد اللـه دخـل حيـن فتح بيت المقدس راكبًا على ثور فعرف بأبي ثور وأقطعه الملك العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب ديرمار يقوص وبه دفن وذلك في سنة خمسمائة وأربعـة وتسعين وجده الأدنى زين العابدين أمه الشريفة راضية بنت السيد محب الدين محمد بن كريم الديـن عبـد الكريـم ابـن داود بـن سليمـان بـن محمـد بـن داود بـن عبـد الحافـظ بن أبي الوفاء محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن السيد زكي الدين سالم الحسيني الوفائي البدري المقدسي ومن هنا جاء لحفيده المترجم الشرف وهي أخت الجد الرابع للسيد علي المقدسي ويعـرف المترجـم أيضـًا بالعسيلي وكأنه من طرف الأمهات ولد ببيت المقدس وبها نشأ وقرأ شيئًا من المبـادئ ثـم ارتحـل إلـى دمشـق فحضـر دروس الشيـخ اسمعيـل العجلونـي ولازمـه وأجـازه بمروياته وجود الخط على مستعد زاده فمهر فيه وكتب بخطه أشياء ودخل مصر ونزل في رواق الشوام بالأزهر وأقبل على تحصيل العلم والمعارف فحضر دروس مشايخ الوقت كالشبراوي والحفني والجوهري ولازم السيد البليدي واستكتب حاشية على البيضاوي وسافر إلـى الحرميـن وجـاور بهمـا وأخـذ عن الشيخ محمد حياة والشيخ ابن الطيب ثم قدم مصر وتوجه منها لدار ملك الورم وأدرك بها بعض ما يروم وعاشر الأكابر وعرف اللسان وصار منظورًا إليـه عنـد الأعيـان ثـم قـدم مصـر مع بعض أمراء الدولة في أثناء سنة 1172 وانضوى إلى الشيخ السيـد محمـد أبـي هـادي بـن وفـا وكان صغير السن فألفه وأحبه وأدبه وصار يذاكره بالعلم واتحد معـه حتـى صـار مشـارًا إليـه فـي الأمـور معـولًا عليـه في المهمات. ولما تولى نقابة السادة الأشراف مضافـة إلـى خلافـة الوفائيـة كـان هـو كالكتخـدا لـه فـي أحواله معتمدًا عليه في أفعاله وأقواله وداوم علـى ذلـك برهـة مـن الزمـان وهو نافذ الكلمة مسموع المقال حسن الحركات والأحوال إلى أن توفي الشيخ المشار إليه فضاقت مصر عليه فتوجه إلى دار السلطة وقطنها واتخذها دارًا وسكنها وأقبـل علـى الإفـادة ونشـر العلـوم بالإعـادة. وبلغنـي أنـه كتـب فـي تلـك الأيام شرحًا على بعض متون الفقـه في مذهب الإمام وصار مرجع الخواض والعوام مقبولًا بالشفاعة عند أرباب الدولة حتى وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله وكان أودع جملة من كتبه بمصر فأرسل بوقفها برواق الشوام فوضعوها في خزانة لنفع الطلبة. ومات الفقيه العلامة الصالح المعمر الشيخ عبد الله بن خزام أبو الطوع الفيومي وغيره وقدم الجامـع الأزهـر فأخـذ عـن فضـلاء عصره وهو أحد من يشار إليه في بلده بالفضل وتولى الإفتاء فسـار بغايـة التحـري وبلغني من تواضعه أنه كانيأتي إليه أحد العوام فيقول له: حاجتي في بلد كذا فقم معي حتى تقضيها. فيطيعه ويذهب معه الميلين والثلاثة ويقضيها وقد تكرر ذلك منه وكان له في كل يوم صدقات الخبز على الفقراء والمساكين يفرقها عليهم بيده ولا يشمئز وكانت له معرفة تامة في علم المذهب وغيره من الفنون الغريبة كالفلك والهيئة والميقات وعند آلات لذلك. وكان إنسانًا حسنًا جامعًا لأدوات الفضائل. توفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الثاني من السنة ولم يخلف بعده مثله. ومات الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد الحباك الشافعي الشاذلي تفقه على الشيخ عيسى البراوي وبه تخرج وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد كشك وإليه انتسب ولما توفي جعل شيخـًا علـى المريديـن وسـار فيهـم سيـرًا مليحـًا. وكـان يصلي إمامًا بزاوية بقلعة الجبل وكان شيخًا حسن العشرة لطيف المجاورة طارحًا للنكات متواضعًا وقد صارت له مريدون وأتباع خاصة غير أتباع شيخه توفي في يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من السنة. ومات من الأمراء الأمير إبراهيم بك أوده باشه خنقه مراد بك عفا الله عنه والمسلمين. سنة ست وتسعين ومائة وألف فيها في صفر نزل مراد بك وسرح بالأقاليم البحرية وطاف البلاد الشرقية وطلب منهم أموالًا وفـرض عليهـم مقاديـر من المال عظيمة وكلفًا وحق طرق معينين وغير ذلك ما لا يوصف ثم نزل إلى الغربية وفعل بها كذلك ثم إلى المنوفية. وفي منتصف شعبان ورد أغا بطلب محمد باشا ملك إلى الباب ليتولى الصدارة فنزل من القلعة إلى قصر العيني وأقام بقية شهر شعبان ونزل في غرة رمضان وسافر إلى سكندرية. فكانـت مـدة ولايتـه ثلاثـة عشـر شهـرًا ونصفـًا. وهاداه الأمراء ولم يحاسبوه على شيء. ونزل في غايـة الإعـزاز والإكـرام وكـان مـن أفاضـل العلماء متضلعًا من سائر الفنون ويحب المذاكرة والمباحثة والمسامرة وأخبار التواريخ وحكايات الصالحين وكلام القـوم وكـان طاعنـًا فـي السـن منور الشيبة متواضعًا وحضر الباشا الجديد في أواسط رمضان ونزل إليه الملاقاة وحضر إلى مصـر فـي عاشـر شـوال وطلعـوه قصر العيني فبات به وركب بالموكب في صبحها ومر من جهة الصليبة وطلع إلى القلعة وذلك على خلاف العادة. وفيه جاءت الأخبار على أيدي السفار الواصلين من اسلامبول بأنه وقع بها حريق عظيم لم يسمـع بمثلـه واحتـرق منهـا نحو الثلاثة أرباع واحترق خلق كثير في ضمن الحريق وكان أمرًا مهولًا وبعد ذلك حصل بها فتنة أيضًا ونفوا الوزير عزت محمد باشا وبعض رجال الدولة. وفـي ليلـة السبت ثامن عشر القعدة هرب سليم بيك وإبراهيم بك قشطة وتبعهم جماعة كثيرة نحو الثمانين فخرجوا ليلًا على الهجن وجرائد الخيل وذهبوا إلى الصعيد وأصبح الخبر شائعًا بذلك فارتبك إبراهيم بك ومراد بك ونادى الأغا والوالي بترك الناس المشي من بعد العشاء. من توفي في هذه السنة من الأعيان توفي الأستاذ الوجيه العظيم السيد محمد أفندي البكري الصديقـي نقيـب السـادة الأشـراف بالديار المصرية كان وجيهًا مبجلًا محشتمًا سار في نقابة الأشراف سيرًا حسنًا مع الإمارة وسلوك الإنصاف وعدم الاعتساف ولما توفي ابن عمه الشيخ أحمد شيخ السجادة البكرية تولاهـا بعـده بإجمـاع الخـاص والعـام مضافـة لنقابـة الأشراف فحاز المنصبين وكمل له الشرفان. ولم يقـم فـي ذلـك إلا نحـو سنـة ونصـف. وتوفـي يـوم السبـت عاشـر شعبان فحضر مراد بك إلى منزله وخلع على ولده السيد محمد أفندي ما كان على والده من مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف وجهز وكفن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية وصلوا عليه بالجامع الأزهر في مشهد حافل ودفن بمشهد أجداده بالقرافة. ومـات الشريـف العفيـف الوفي الصديق محمد بن زين بأحسن جمل الليل الحسيني باعلوى التريمي الأصل نزيل الحرمين سكـن بهمـا مـدة واتصـل بخدمـة الشيـخ القطيـب السمـد الشيـخ باعبـود فلوحظ بأنظاره وكان يحترمه ويعترف بمقامه ويحكي عن بعض مكاشفاته ووارداته وصحب كلًا من القطب السيد عبد الله مدهر وعارفة وقتها الشريفة فاطمة العلوية والشيخ محمد ابن عبـد الكريـم السمـان والشيخ عبد الله ميرغني وجماعة كثيرين من السادة والواردين على الحرمين مـن الأفاضـل وله محاورة لطيفة ولديه محفوظة ومعرفة بدقائق علم الطب وسليقة في التصوف. ورد إلى مصر سنة 1181 هو عائد من الروم واجتمع بأفاضلها وعاشر شيخنا السيد محمد مرتضى وأفاده وأرشده إلى أمور مهمة وسافر صحبته لزيارة الشهداء بدمياط ولاقاه أهلها بالاحتـرام. ثـم توجـه إلـى الحرميـن الشريفيـن وأقـام هنـاك واجتمـع بـه الشيـخ محمـد الجوهـري وآخـاه في الصحبة وكان مع ما أعطي من الفضائل يتجر بالبضائع الهندية ويتعلل بما يتحصل منها وبآخره سافر إلى الديار الهندية وبها توفي في هذه السنة. ومات العمدة الفاضل واللوذعي الكامل الرحلة الدراكة بقية السلف الورع الصالح الزاهدالشيخ موسى بن داود الشيخوني الحنفي إمام جامع شيبون وخطيبه وخازن كتبه وكان إنسانًا حسنًا عظيم النفس منور الشيبة ضخم البدن فقيهًا مستحضرًا المناسبات مهذب النفس لين الجانب تقيًا معتقدًا ولما وقف الأمير أحمد باشجاويش كتبه التي جمعها وضعها بخزانة كتب الوقف تحت يد المترجم لاعتقاده فيه الديانة والصيانة رحمهما الله تعالى. فيها تسحب أيضًا جماعة من الكشاف والمماليك وذهبوا إلى قبلي فشرعوا في تجهيز جريدة وعـزم مـراد بـك علـى السفـر وأخـذ فـي تجهيز اللوازم فطلب الأموال فقبضوا على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين وحبسوهم وصادروهم في أموالهم وسلبوا ما بأيديهم. فجمعوا من المال ما جاوز الحد ولا يدخل تحت العد. وفـي منتصـف ربيـع الآخـر بـرز مراد بك للسفر وأخرج خيامه إلى جهة البساتين وخرج صحبته الأمير لاجين بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر وسليمان بك أبو نبوت وكشافهم ومماليكهم وطوائفهم وسافروا بعد أيام. وفـي أواخـر جمـادى الثانية وردت الأخبار بأن رضوان بكم قرابة علي بك حضر إلى مراد بك وانضم إليه فلما فعل ذلك انكسرت قلوب الآخرين وانخذلوا ورجعوا القهقرى ورجع مراد بك أيضًا إلى مصر في منتصف شهر رجب وترك هناك مصطفى بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر. وفي يوم الخميس سادس عشرين رجب اتفق مراد بك وإبراهيم بك على نفي جماعة من خشادشينهم وهـم إبراهيـم بـك الوالـي وأيـوب بـك الصغيـر وسليمـان بـك الأغـا ورسمـوا لأيـوب بـك أن يذهـب إلـى المنصـورة فأبـى وامتنـع مـن الخـروج فذهـب إليه حسن كتخدا الجربان كتخدا مراد بك واحتال عليه فركب وخرج إلى غيط مهمشة ثم سافر إلى المنصورة. وأما إبراهيم بك الوالي فركـب بطوائفـه ومماليكـه وعدى إلى بر الجيزة فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك وحجزوا هجنه وجماله عند المعادي وعدوا خلفه فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه إلى قصر العينـي ثـم سفـروه إلـى ناحيـة السـرو ورأس الخليـج. وأمـا سليمـان بك فإنه كان غائبًا بإقليم الغربية والمنوفية يجمع من الفلاحين فردًا وأموالًا ومظالم فلما بلغه الخبر رجع إلى منوف فحضر إليه المعينون لنفيه وأمروه بالذهاب إلى المحلة الكبرى فركب بجماعته وأتباعه فوصل إلى مسجد الخضر فاجتمع بأخيه إبراهيم بك الوالي هناك فأخذه صحبته وذهبا إلى جهة البحيرة. وفي يوم الأحد غاية شهر رجب طلع الأمراء إلى الديوان وقلدوا خمسة من أغوات الكشاف صناجق وهم عبد الرحمن خازندار إبراهيم بك سابقًا وقاسم أغا كاشف المنوفية سابقًا وعـرف بالموسقـو وهـو مـن مماليـك محمـد بـك وأشـراف إبراهيـم بـك وحسيـن كاشـف وعـرف بالشفت بمعنى اليهودي وعثمان كاشف ومصطفى كاشف السلحدار وهؤلاء الثلاثة من طرف مراد بك. وفي
|